فصل: السابع‏والثامن:‏ أن يكون ذكرا، سليم الأعضاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 30‏)‏

{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون‏}

قوله تعالى ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة‏}‏ إذ وإذا حرفا توقيت، فإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى‏.‏ وقال المبرد‏:‏ إذا جاء ‏{‏إذ‏}‏ مع مستقبل كان معناه ماضيا،

نحو قوله‏{‏وإذ يمكر بك‏}{‏ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه‏}‏ معناه مكروا، وإذ قلت‏.‏ وإذا جاء ‏{‏إذا‏}‏ مع الماضي كان معناه مستقبلا، كقوله تعالى‏{‏فإذا جاءت الطامة‏}‏ ُ ‏{‏ فإذا جاءت الصاخة‏}‏ ‏.‏ و ‏{‏ إذا جاء نصر الله‏}‏ ‏.‏ أي يجيء‏.‏ وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة‏{‏إذ‏}‏ زائدة، والتقدير‏:‏ وقال ربك، واستشهد بقول الأسود بن يعفر‏:‏

فإذ وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد

وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا خطأ، لأن ‏{‏إذ‏}‏ اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذا اجترام من أبي عبيدة، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال‏:‏

فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما

يريد أينما ذهب‏.‏ ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال‏.‏ وقيل‏:‏ هو مردود إلى قوله تعالى‏{‏اعبدوا ربكم الذي خلقكم‏}‏ ‏.‏ فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة‏.‏ وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم‏.‏ وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته‏.‏ وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي‏.‏ وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلى‏.‏ والرب‏:‏ المالك والسيد والمصلح والجابر، وقد تقدم بيانه‏.‏

قوله تعالى‏{‏للملائكة‏}‏ الملائكة واحدها ملك‏.‏ قال ابن كيسان وغيره‏:‏ وزن ملك فعل من الملك‏.‏ وقال أبو عبيدة، هو مفعل من لأك إذا أرسل‏.‏ والألوكة والمألَكة والمألُكة‏:‏ الرسالة، قال لبيد‏:‏

وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل

وقال آخر‏:‏

أبلغ النعمان عني مألكا إنني قد طال حبسي وانتظاري

ويقال‏:‏ ألكني أي أرسلني، فأصله على هذا مألك، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا‏:‏ ملأك، ثم سهلوه فقالوا ملك‏.‏ وقيل أصله ملأك من ملك يملك، نحو شمأل من شمل، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا، وقد تأتي في الشعر على الأصل، قال الشاعر‏:‏

فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب

وقال النضر بن شميل‏.‏ لا اشتقاق للملك عند العرب‏.‏ والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة‏.‏ والصلادم‏:‏ الخيل الشداد، واحدها صلدم‏.‏ وقيل‏:‏ هي للمبالغة، كعلامة ونسابة‏.‏ وقال أرباب المعاني‏:‏ خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس، ثم ردهم إلى قيمتهم، فقال عز وجل‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ .‏

قوله تعالى‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏{‏جاعل‏}‏ هنا بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد، وقد تقدم‏.‏ والأرض قيل إنها مكة‏.‏ روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏دحيت الأرض من مكة‏)‏ ولذلك سميت أم القرى، قال‏:‏ وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام‏.‏ و‏{‏خليفة‏}‏ يكون بمعنى فاعل، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روي‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏خليفة‏}‏ بمعنى مفعول أي مخلف، كما يقال‏:‏ ذبيحة بمعنى مفعولة‏.‏ والخلف بالتحريك من الصالحين، وبتسكينها من الطالحين، هذا هو المعروف، وسيأتي له مزيد بيان في الأعراف إن شاء الله‏.‏ و‏{‏خليفة‏}‏ بالفاء قراءة الجماعة، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ ‏{‏خليقة‏}‏ بالقاف‏.‏ والمعني بالخليفة هنا - في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل - آدم عليه السلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذر، قال قلت‏:‏ يا رسول الله أنبيا كان مرسلا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ الحديث ويقال‏:‏ لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد‏؟‏ فيقال‏:‏ كان رسولا إلى ولده، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال الله تعالى‏{‏خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏} .‏ وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولم الخنزير‏.‏ وعاش تسعمائة وثلاثين سنة، هكذا ذكر أهل التوراة وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة، والله أعلم‏.‏

هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة‏.‏ ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال‏:‏ إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك‏.‏ ودليلنا قول الله تعالى‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ، وقوله تعالى‏{‏يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض‏}‏ ، وقال‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض‏} ‏.‏ أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي‏.‏

وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار‏:‏ منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم‏:‏ إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش‏.‏ فلو كان فرض الإمام غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل‏:‏ إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب‏.‏ ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين، والحمد لله رب العالمين‏.‏

وقالت الرافضة‏:‏ يجب نصبه عقلا، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل‏.‏ وهذا فاسد، لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل، وهذا واضح‏.‏ فإن قيل وهي‏:‏

إذا سلم أن طريق وجوب الإمامة السمع، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الأئمة فيه، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه‏؟‏‏.‏

فالجواب أن يقال‏:‏ اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه‏.‏ وعندنا‏:‏ النظر طريق إلى معرفة الإمام، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلا، وأبطلوا القياس أصلا وفرعا‏.‏ ثم اختلفوا على ثلاث فرق‏:‏ فرقة تدعي النص على أبي بكر، وفرقة تدعي النص على العباس، وفرقة تدعي النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنهم‏.‏ والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك، لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة الله في غير معين، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين، وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين، لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواترا أوجب العلم ضرورة أو استدلالا، أو يكون من أخبار الآحاد، ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه، كما أن كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات، وصوم رمضان، وحج البيت ونحوها، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة، فبطلت هذه الدعوى، وبطل أن يكون معلوما بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به‏.‏ وأيضا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي وجه كان، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس، لأن لكل واحد منهما قوما ينقلون النص صريحا في إمامته، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد - على ما يأتي بيانه - كذلك الواحد، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر‏.‏ وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد‏.‏ فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضا في جملتها مقام النص، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص، وهم الخلق الكثير والجم الغفير‏.‏ والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما‏.‏

في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادا، منها قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ والمولى في اللغة بمعنى أولى، فلما قال‏:‏ ‏(‏فعلي مولاه‏)‏ بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله ‏{‏مولى‏}‏ أنه أحق وأولى‏.‏ فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة، وقوله عليه السلام لعلي‏:‏ ‏(‏أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ ومنزلة هارون معروفة، وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي، وكان خليفة، فعلم أن المراد به الخلافة، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

والجواب عن الحديث الأول‏:‏ أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فلو كان قد قال‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلي مولاه‏)‏ لكان أحد الخبرين كذبا‏.‏ جواب ثان‏:‏ وهو أن الخبر وإن كان صحيحا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته، وإنما يدل على فضيلته، وذلك أن المولى بمعنى الولي، فيكون معنى الخبر‏:‏ من كنت وليه فعلي وليه، قال الله تعالى‏{‏فإن الله هو مولاه‏} ‏.‏ أي وليه‏.‏ وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه، وذلك فضيلة عظيمة لعلي‏.‏ جواب ثالث‏:‏ وهو أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك أن أسامة وعليا اختصما، فقال علي لأسامة‏:‏ أنت مولاي‏.‏ فقال‏:‏ لست مولاك، بل أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلي مولاه‏)‏‏.‏

جواب رابع‏:‏ وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها‏:‏ النساء سواها كثير‏.‏ شق ذلك عليها، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردا لقولهم، وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا‏:‏ ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي عليه السلام‏.‏ وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام - على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة المائدة - وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون، فلو أراد بقوله‏:‏ ‏(‏أنت مني بمنزلة هارون من موسى‏)‏ الخلافة لقال‏:‏ أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا الحديث خرج على سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه، فأرجف به أهل النفاق وقالوا‏:‏ إنما خلفه بغضا وقلى له، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ إن المنافقين قالوا كذا وكذا‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‏)‏‏.‏ وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليا في هذه الفضيلة غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه، منهم‏:‏ ابن أم مكتوم، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد‏.‏ وروي في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له‏:‏ ألا تنفذ أبا بكر وعمر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏هما وزيراي في أهل الأرض‏)‏‏.‏ وروي عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى‏)‏‏.‏ وهذا الخبر ورد ابتداء، وخبر علي ورد على سبب، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة، والله أعلم‏.‏

 واختلف فيما يكون به الإمام إماما وذلك ثلاث طرق،  أحدها‏:‏ النص، وقد تقدم الخلاف فيه، وقال به أيضا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبدالواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة، وأبو بكر على عمر‏.‏ فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق، أو على جماعة كما فعل عمر، وهو  الطريق الثاني، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏  الطريق الثالث‏:‏ إجماع أهل الحل والعقد، وذلك أن الجماعة في مصر من أنصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام، إذا لم يكن الإمام معلنا بالفسق والفساد، لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة‏)‏‏.‏

فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس حيث قال‏:‏ لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود‏.‏ قال الإمام أبو المعالي‏:‏ من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال‏:‏ وهذا مجمع عليه‏.‏

فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا، وقد سئل سهل بن عبدالله التستري‏:‏ ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام‏؟‏ قال‏:‏ تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، والله أعلم‏.‏

واختلف في الشهادة على عقد الإمامة، فقال بعض أصحابنا‏:‏ إنه لا يفتقر إلى الشهود، لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع، وليس ههنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يفتقر إلى شهود، فمن قال بهذا احتج بأن قال‏:‏ لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعي كل مدع أنه عقد له سرا، وتؤدي إلى الهرج والفتنة، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان، خلافا للجُبّائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له، لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك‏.‏ ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر‏.‏

 شرائط الإمام، وهي أحد عشر‏:‏  الأول‏:‏ أن يكون من صميم قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأئمة من قريش‏)‏‏.‏ وقد اختلف في هذا‏.‏  الثاني‏:‏ أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه‏.‏  الثالث‏:‏ أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم‏.‏  الرابع‏:‏ أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعا فيه، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام، وله أن يباشر الفصل والحكم، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالما بذلك كله قيما به‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الخامس‏:‏ أن يكون حرا، ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه وهو السادس‏.‏

 السابع‏:‏ أن يكون ذكرا، سليم الأعضاء وهو الثامن‏.‏ وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه‏.‏  التاسع والعاشر‏:‏ أن يكون بالغا عاقلا، ولا خلاف في ذلك‏.‏  الحادي عشر‏:‏ أن يكون عدلا، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون‏)‏‏.‏ وفي التنزيل في وصف طالوت‏{‏إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم‏} ‏ ‏.‏ فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء‏.‏ وقوله‏{‏اصطفاه‏}‏ معناه اختاره، وهذا يدل على شرط النسب‏.‏ وليس من شرطه أن يكون معصوما من الزلل والخطأ، ولا عالما بالغيب، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعثمان وليسوا من بني هاشم‏.‏

يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة، وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها‏.‏ فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم، والله أعلم‏.‏

الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور‏:‏ إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها‏.‏ فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة‏:‏ ‏(‏وألا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان‏)‏‏.‏ وفي حديث عوف بن مالك‏:‏ ‏(‏لا ما أقاموا فيكم الصلاة‏)‏ الحديث‏.‏‏"‏ أخرجهما مسلم‏"‏‏.‏ وعن أم سلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع - قالوا‏:‏ يا رسول الله ألا نقاتلهم‏؟‏ قال‏:‏ - لا ما صلوا‏)‏‏.‏ أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه‏.‏ أخرجه أيضا مسلم‏.‏

ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة‏.‏ فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره‏؟‏ اختلف الناس فيه، فمنهم من قال‏:‏ ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ له أن يفعل ذلك‏.‏ والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ أقيلوني أقيلوني‏.‏ وقول الصحابة‏:‏ لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك‏!‏ رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك‏!‏ فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له‏:‏ ليس لك أن تقول هذا، وليس لك أن تفعله‏.‏ فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك، ولأن الإمام ناظر للغيب فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم، والوكيل إذا عزل نفسه‏.‏ فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه، وكذلك الإمام بجب أن يكون مثله‏.‏ والله أعلم‏.‏

إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين‏.‏ وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته‏.‏ والأول أظهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما‏)‏‏.‏‏"‏ رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم‏"‏‏.‏ وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول‏:‏ ‏(‏ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر‏)‏‏.‏‏"‏ رواه مسلم أيضا‏"‏، ومن حديث عرفجة‏:‏ ‏(‏فاضربوه بالسيف كائنا من كان‏)‏‏.‏ وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده، فإن كان الإمام فاسقا والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف من ما أظهر‏.‏

فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا‏.‏ قال الإمام أبو المعالي‏:‏ ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم، ثم قالوا‏:‏ لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر‏.‏ قال‏:‏ والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز وقد حصل الإجماع عليه‏.‏ فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع‏.‏ وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم‏.‏ وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد، وصاروا إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين‏.‏ قالوا‏:‏ وإذا كانا اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى، ولا تؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة‏.‏ والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله‏:‏ ‏(‏فاقتلوا الآخر منهما‏)‏ ولأن الأمة عليه‏.‏ وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة‏.‏ ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام‏.‏ فإن قالوا‏:‏ العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه‏.‏ وقلنا‏:‏ أقوى السمع الإجماع، وقد وجد على المنع‏.‏

قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله‏{‏لا يسبقونه بالقول‏}‏ خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏‏؟‏ فقيل‏:‏ المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم‏{‏إني أعلم‏}‏ وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء‏.‏ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال، فمن حينئذ دخلته العزة‏.‏ فجاء قولهم‏{‏أتجعل فيها‏}‏ على جهة الاستفهام المحض‏:‏ هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا‏؟‏ قاله أحمد بن يحيى ثعلب‏.‏ وقال ابن زيد وغيره‏.‏ إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا‏:‏ الاستخلاف والعصيان‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ أهو الذي أعلمهم أم غيره‏.‏

وهذا قول حسن، رواه عبدالرزاق قال‏:‏ أخبرنا معمر عن قتادة في قوله ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ قال‏:‏ كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فلذلك قالوا‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏‏.‏ وفي الكلام حذف على مذهبه، والمعنى إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا، فقالوا‏:‏ أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره‏؟‏ والقول الأول أيضا حسن جدا، لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء، وما بين القولين حسن، فتأمله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله‏:‏ ‏(‏كيف تركتم عبادي‏)‏ - على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره - إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال‏:‏ أتجعل فيها، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏‏.‏

قوله‏{‏من يفسد فيها‏}‏ ‏{‏من‏}‏ في موضع نصب على المفعول بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه ‏{‏فيها‏}‏‏.‏ ‏{‏يفسد‏}‏ على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى‏.‏ وفي التنزيل‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏‏.‏ على اللفظ، ‏{‏ومنهم من يستمعون‏}‏ على المعنى‏.‏ ‏{‏ويسفك‏}‏ عطف عليه، ويجوز فيه الوجهان‏.‏ و روى أسيد عن الأعرج أنه قرأ‏{‏ويسفك الدماء‏}‏ بالنصب، يجعله جواب الاستفهام بالواو كما قال‏:‏

ألم أك جاركم وتكون بيني وبينكم المودة والإخاء

والسفك‏:‏ الصب‏.‏ سفكت الدم أسفكه سفكا‏:‏ صببته، وكذلك الدمع، حكاه ابن فارس والجوهري‏.‏ والسفاك‏:‏ السفاح، وهو القادر على الكلام‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وقد يستعمل في نثر الكلام يقال سفك الكلام إذا نثره‏.‏ وواحد الدماء دم، محذوف اللام‏.‏ وقيل‏:‏ أصله دمي‏.‏ وقيل‏:‏ دمي، ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه، والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل، قال الشاعر‏:‏

فلو أنا على حجر ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين

قوله تعالى‏{‏ونحن نسبح بحمدك‏}‏ أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك‏.‏ والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة‏:‏

أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر

أي براءة من علقمة‏.‏ وروى طلحة بن عبيدالله قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال‏:‏ ‏(‏هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء‏)‏‏.‏ وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب، قال الله تعالى‏{‏إن لك في النهار سبحا طويلا‏}‏ ‏.‏ فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء‏.‏ وقد تقدم الكلام في ‏{‏نحن‏}‏، ولا يجوز إدغام النون في النون لئلا يلتقي ساكنان‏.‏

مسألة‏:‏ واختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة، فقال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ تسبيحهم صلاتهم، ومنه قول الله تعالى‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين‏} ‏.‏ أي المصلين‏.‏ وقيل‏:‏ تسبيحهم رفع الصوت بالذكر، قاله المفضل، واستشهد بقول جرير‏:‏

قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا إهلالا

وقال قتادة‏:‏ تسبيحهم‏:‏ سبحان الله، على عرفه في اللغة، وهو الصحيح لما رواه أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل‏:‏ أي الكلام أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏‏"‏ وعن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السموات العلا‏:‏ سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى، ذكره البيهقي‏.‏

قوله تعالى‏{‏بحمدك‏}‏ أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به‏.‏ والحمد‏:‏ الثناء، وقد تقدم‏.‏ ويحتمل أن يكون قولهم‏{‏بحمدك‏}‏ اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا‏:‏ ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ونقدس لك‏}‏ أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون، قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما‏.‏ وقال الضحاك وغيره‏:‏ المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك‏.‏ وقال قوم منهم قتادة‏{‏نقدس لك‏}‏ معناه نصلي‏.‏ والتقديس‏:‏ الصلاة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏

قلت‏:‏ بل معناه صحيح، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبوح قدوس رب الملائكة والروح‏)‏‏.‏‏"‏ روته عائشة أخرجه مسلم‏"‏‏.‏ وبناء ‏{‏قدس‏}‏ كيفما تصرف فإن معناه التطهير، ومنه قوله تعالى‏{‏ادخلوا الأرض المقدسة‏} .‏ أي المطهرة‏.‏ وقال‏{‏الملك القدوس‏} ‏.‏ يعني الطاهر، ومثله‏{‏بالواد المقدس طوى‏}‏ ُ ‏.‏ وبيت المقدس سمي به لأنه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر، ومنه قيل للسطل‏:‏ قَدَس، لأنه يتوضأ فيه ويتطهر، ومنه القادوس‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها‏)‏‏.‏ يريد لا طهرها الله، أخرجه ابن ماجة في سننه‏.‏ فالقدس‏:‏ الطهر من غير خلاف، وقال الشاعر‏:‏

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا كما شبرق الولدان ثوب المقدس

أي المطهر‏.‏ فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إني أعلم‏}‏ فيه تأويلان، قيل‏:‏ إنه فعل مستقبل‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اسم بمعنى فاعل، كما يقال‏:‏ الله أكبر، بمعنى كبير، وكما قال‏:‏

لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول

فعلى أنه فعل تكون ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب بأعلم، ويجوز إدغام الميم في الميم‏.‏ وإن جعلته اسما بمعنى عالم تكون ‏{‏ما‏}‏ في موضع خفض بالإضافة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في ‏{‏أفعل‏}‏ إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه‏.‏ قال المهدوي‏:‏ يجوز أن تقدر التنوين في ‏{‏أعلم‏}‏ إذا قدرته بمعنى عالم، وتنصب ‏{‏ما‏}‏ به، فيكون مثل حواج بيت الله‏.‏ قال الجوهري‏:‏ ونسوة حواج بيت الله، بالإضافة إذا كن قد حججن، وإن لم يكن حججن قلت‏:‏ حواج بيت الله، فتنصب البيت، لأنك تريد التنوين في حواج‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى‏{‏ما لا تعلمون‏}‏‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزية له، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام‏.‏ وقالت الملائكة‏{‏ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏} ‏.‏ وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، فقال الله تعالى لهم‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏} ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لما قالت الملائكة ‏{‏ أتجعل فيها‏} ‏ ‏.‏ وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم ‏{‏إني أعلم ما لا تعلمون‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن، فهو عام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31‏)‏

{‏وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين‏}

قوله تعالى‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ علّم عرّف‏.‏ وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة‏.‏ ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام ، على ما يأتي‏.‏ وقرئ‏{‏وعُلِّم‏}‏ غير مسمى الفاعل‏.‏ والأول أظهر، على ما يأتي‏.‏ قال علماء الصوفية‏:‏ علمها بتعليم الحق إياه وحفظها بحفظه عليه ونسي ما عهد إليه، لأن وكله فيه إلى نفسه فقال‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما‏} ‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها‏.‏ وهذا واضح‏.‏

وآدم عليه السلام يكنى أبا البشر‏.‏ وقيل‏:‏ أبا محمد، كني بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله السهيلي‏.‏ وقيل‏:‏ كنيته في الجنة أبو محمد، وفي الأرض أبو البشر‏.‏ وأصله بهمزتين، لأنه أفعل إلا أنهم لينوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا فقلت‏:‏ أوادم في الجمع، لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن الأخفش‏.‏

واختلف في اشتقاقه، فقيل‏:‏ هو مشتق من أدمة الأرض وأديمها وهو وجهها، فسمي بما خلق منه، قال ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مشتق من الأدمة وهي السمرة‏.‏ واختلفوا في الأدمة، فزعم الضحاك أنها السمرة، وزعم النضر أنها البياض، وأن آدم عليه السلام كان أبيض، مأخوذ من قولهم‏:‏ ناقة أدماء، إذا كانت بيضاء‏.‏ وعلى هذا الاشتقاق جمعه أدم وأوادم، كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه‏.‏ وعلى أنه مشتق من الأدمة جمعه آدمون، ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي، ذكره ابن سعد في الطبقات‏.‏ و‏"‏روى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح ‏"‏عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال‏:‏ فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض‏:‏ أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ وقال‏:‏ يا رب إنها عاذت بك فأعذتها‏.‏ فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال‏:‏ وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره‏.‏ فأخذ من وجه الأرض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين - ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض - فصعد به، فقال الله تعالى له‏:‏ ‏(‏أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك‏)‏ فقال‏:‏ رأيت أمرك أوجب من قولها‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أنت تصلح لقبض أرواح ولده‏)‏ فبل التراب حتى عاد طينا لازبا، اللازب‏:‏ هو الذي يلتصق بعضه ببعض، ثم ترك حتى أنتن، فذلك حيث يقول‏{‏من حمأ مسنون‏}‏ ُ ‏.‏ قال‏:‏ منتن‏.‏ ثم قال للملائكة‏{‏إني خالق بشرا من طين‏.‏ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏} ‏.‏ فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه‏.‏ يقول‏:‏ أتتكبر عما خلقت بيدي ولم أتكبر أنا عنه‏!‏ فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة، فذلك حين يقول‏{‏من صلصال كالفخار‏} ‏.‏ ويقول لأمر ما خلقت‏!‏‏.‏ ودخل من فمه وخرج من دبره، فقال إبليس للملائكة‏:‏ لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولئن سلطت عليه لأهلكنه‏.‏ ويقال‏:‏ إنه كان إذا مر عليه مع الملائكة يقول‏:‏ أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون‏!‏ قالوا‏:‏ نطيع أمر ربنا، فأسر إبليس في نفسه لئن فضل علي فلا أطيعه، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة‏:‏ إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة‏:‏ قل الحمد لله، فقال‏:‏ الحمد لله، فقال الله له‏:‏ رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول‏{‏خلق الإنسان من عجل‏} ‏ُ ‏.‏ ‏{‏ فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين‏}‏ ‏.‏ وذكر القصة‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري‏"‏ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ أديم‏:‏ جمع أدم، قال الشاعر‏:‏

الناس أخياف وشتى في الشيم وكلهم يجمعهم وجه الأدم

فآدم مشتق من الأديم والأدم لا من الأدمة، والله أعلم‏.‏ ويحتمل أن يكون منهما جميعا‏.‏ وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في خلق آدم في الأنعام وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏

و‏{‏آدم‏}‏ لا ينصرف‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏{‏آدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين، لأنه على أفعل وهو معرفة، ولا يمتنع شي من الصرف عند البصريين إلا لعلتين‏.‏ فإن نكرته ولم يكن نعتا لم يصرفه الخليل وسيبويه، وصرفه الأخفش سعيد، لأنه كان نعتا وهو على وزن الفعل، فإذا لم يكن نعتا صرفه‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ القول قول سيبويه، ولا يفرق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏الأسماء كلها‏}‏ ‏{‏الأسماء‏}‏ هنا بمعنى العبارات، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى، كقولك‏:‏ زيد قائم، والأسد شجاع‏.‏ وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك‏:‏ أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال‏:‏ الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد المسمى، وقد يجرى اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الأكثر من استعمالها، ومنه قوله تعالى‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ ‏.‏ على أشهر التأويلات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لله تسعة وتسعين اسما‏)‏‏.‏ ويجري مجرى الذات، يقال‏:‏ ذات ونفس وعين واسم بمعنى، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏} ‏ ‏{‏ تبارك اسم ربك‏} ‏ُ ‏.‏ ‏{‏ إن هي إلا أسماء سميتموها‏} ‏ُ ‏.‏

واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير‏:‏ علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها‏.‏ و روى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن علي قال‏:‏ كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي هذا المعنى مرفوعا على ما يأتي، وهو الذي يقتضيه لفظ ‏{‏كلها‏}‏ إذ هو اسم موضوع للإحاطة والعموم، وفي البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء‏)‏ الحديث‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا‏.‏ وكذلك قال ابن عباس‏:‏ علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب‏.‏ و روى شيبان عن قتادة قال‏:‏ علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أحسن ما روي في هذا‏.‏ والمعنى علمه أسماء الأجناس وعرفه منافعها، هذا كذا، وهو يصلح لكذا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ علمه أسماء الملائكة وذريته، واختار هذا ورجحه بقوله‏{‏ثم عرضهم على الملائكة‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ علمه أسماء ذريته، كلهم‏.‏ الربيع ابن خثيم‏:‏ أسماء الملائكة خاصة‏.‏ القتبي‏:‏ أسماء ما خلق في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ أسماء الأجناس والأنواع‏.‏

قلت‏:‏ القول الأول أصح، لما ذكرناه آنفا ولما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

واختلف المتأولون أيضا هل عرض على الملائكة أسماء الأشخاص أو الأسماء دون الأشخاص، فقال ابن مسعود وغيره‏:‏ عرض الأشخاص لقوله تعالى‏{‏عرضهم‏}‏ وقوله‏{‏أنبئوني بأسماء هؤلاء‏}‏‏.‏ وتقول العرب‏:‏ عرضت الشيء فأعرض، أي أظهرته فظهر‏.‏ ومنه‏:‏ عرضت الشيء للبيع‏.‏ وفي الحديث ‏(‏إنه عرضهم أمثال الذر‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ عرض الأسماء وفي حرف ابن مسعود‏{‏عرضهن‏}‏، فأعاد على الأسماء دون الأشخاص، لأن الهاء والنون أخص بالمؤنث‏.‏ وفي حرف أبي‏{‏عرضها‏}‏‏.‏ مجاهد‏:‏ أصحاب الأسماء‏.‏ فمن قال في الأسماء إنها التسميات فاستقام على قراءة أبي ‏{‏عرضها‏}‏‏.‏ وتقول في قراءة من قرأ ‏{‏عرضهم‏}‏‏:‏ إن لفظ الأسماء يدل على أشخاص، فلذلك ساغ أن يقال للأسماء‏{‏عرضهم‏}‏‏.‏ وقال في ‏{‏هؤلاء‏}‏ المراد بالإشارة‏:‏ إلى أشخاص الأسماء، لكن وإن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرضهن عليه مع تلك الأجناس بأشخاصها، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها، ثم إن آدم قال لهم‏:‏ هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا‏.‏ وقال الماوردي‏:‏ وكان الأصح توجه العرض إلى المسمين‏.‏ ثم في زمن عرضهم قولان‏:‏ أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم‏.‏ الثاني - أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم‏.‏

واختلف في أول من تكلم باللسان العربي، فروي عن كعب الأحبار‏:‏ أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها بالألسنة كلها آدم عليه السلام‏.‏ وقاله غير كعب الأحبار‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد روي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال‏:‏ أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام، ورواه ثور ابن زيد عن خالد بن معدان عن كعب‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين‏)‏‏.‏ وقد روي أيضا‏:‏ أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقد روي غير ذلك‏.‏ قلنا‏:‏ الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له، قال الله تعالى‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها ‏} ‏.‏ واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقصيعة‏)‏ وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام‏.‏ وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا، والله أعلم‏.‏ وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏هؤلاء‏}‏ لفظ مبني على الكسر‏.‏ ولغة تميم وبعض قيس وأسد فيه القصر، قال الأعشى‏:‏

هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيـ ـت نعالا محذوة بمثال

ومن العرب من يقول‏:‏ هولاء، فيحذف الألف والهمزة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ شرط، والجواب محذوف تقديره‏:‏ إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني، قاله المبرد‏.‏ ومعنى ‏{‏صادقين‏}‏ عالمين، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا‏{‏سبحانك‏}‏‏!‏ حكاه النقاش قال‏:‏ ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له‏{‏كم لبثت‏}‏ فلم يشترط عليه الإصابة، فقال ولم يصب ولم يعنف، وهذا بين لا خفاء فيه‏.‏ وحكى الطبري وأبو عبيد‏:‏ أن بعض المفسرين قال إن معنى ‏{‏إن كنتم‏}‏‏:‏ إذ كنتم، وقالا‏:‏ هذا خطأ‏.‏ و‏{‏أنبئوني‏}‏ معناه أخبروني‏.‏ والنبأ‏:‏ الخبر، ومنه النبيء بالهمزة، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون‏.‏ وقال المحققون من أهل التأويل‏:‏ ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف‏.‏ وسيأتي القول في تكليف ما لا يطاق - هل وقع التكليف به أم لا - في آخر السورة، إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32‏)‏

{‏ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم‏}

قوله تعالى‏{‏سبحانك‏}‏ أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك‏.‏ وهذا جوابهم عن قوله‏{‏أنبئوني‏}‏ فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في ‏{‏ما علمتنا‏}‏ بمعنى الذي، أي إلا الذي علمتنا، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا‏.‏

الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم‏:‏ الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون‏.‏ وأما ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية ف‏"‏روى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر‏"‏ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي البقاع شر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا أدري حتى أسأل جبريل‏)‏ فسأل جبريل، فقال‏:‏ لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال‏:‏ خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق‏.‏ وقال الصديق للجدة‏:‏ ارجعي حتى أسأل الناس‏.‏ وكان علي يقول‏:‏ وأبردها على الكبد، ثلاث مرات‏.‏ قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول‏:‏ الله أعلم‏.‏ وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال‏:‏ لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به‏!‏ ذكره الدارمي في مسنده‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال‏:‏ كنت جالسا عند القاسم بن عبيدالله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم‏:‏ يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج‏؟‏ فقال له القاسم‏:‏ وعم ذاك‏؟‏ قال‏:‏ لأنك ابن إمامي هدى‏:‏ ابن أبي بكر وعمر‏.‏ قال يقول له القاسم‏:‏ أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة‏.‏ فسكت فما أجابه‏.‏ وقال مالك بن أنس‏:‏ سمعت ابن هرمز يقول‏:‏ ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال‏:‏ لا أدري‏.‏ وذكر الهيثم بن جميل قال‏:‏ شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها‏:‏ لا أدري‏.‏

قلت‏:‏ ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين‏.‏ وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم‏.‏ روى يونس بن عبدالأعلى قال‏:‏ سمعت ابن وهب يقول‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف‏.‏

قلت‏:‏ هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام‏!‏ وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى‏.‏ أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال‏:‏ لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت‏:‏ ما ذلك لك‏!‏ قال‏:‏ ولم‏؟‏ قالت لأن الله عز وجل يقول‏{‏وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا‏} ‏.‏ فقال عمر‏:‏ امرأة أصابت ورجل أخطأ‏!‏ و روى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل‏:‏ ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي‏:‏ أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم‏.‏ وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال‏:‏ لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار‏)‏ فقال‏:‏ إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي‏:‏ بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا‏!‏ أو نحو هذا‏.‏ ثم قال لي‏:‏ قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد - فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال‏:‏ إنما هو مجتابي النمار، كما قلت‏.‏ وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبهم أمامهم‏.‏ والنمار جمع نمرة‏.‏ فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه‏:‏ رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق‏.‏ وانصرف‏.‏ وقال يزيد بن الوليد بن عبدالملك فأحسن‏:‏

إذا ما تحدثت في مجلس تناهى حديثي إلى ما علمت

ولم أعد علمي إلى غيره وكان إذا ما تناهى سكت

قوله تعالى‏{‏سبحانك‏}‏ سبحان منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو منصوب على أنه نداء مضاف‏.‏ و‏{‏العليم‏}‏ فعيل للمبالغة والتكبير في المعلومات في خلق الله تعالى‏.‏ و‏{‏الحكيم‏}‏ معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة‏.‏ وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن الأنباري‏.‏ وقال قوم‏:‏ الحكيم المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد‏.‏ قال جرير‏:‏

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

أي امنعوهم من الفساد‏.‏ وقال زهير‏:‏

القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا

القد‏:‏ الجلد‏.‏ والأبق‏:‏ القنب‏.‏ والعرب تقول‏:‏ أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه‏.‏ والسورة المحكمة‏:‏ الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل‏.‏ ويقال‏:‏ أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد‏.‏ فهو محكم وحكيم على التكثير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33‏)‏

{‏قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون‏}

قوله تعالى‏{‏أنبئهم بأسمائهم‏}‏ أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه‏.‏ فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم‏.‏

في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم‏)‏ أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب‏.‏ فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله، ورضا منهم بالطلب له والشغل به‏.‏ هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم‏.‏

اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين‏:‏ فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة‏.‏ وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل‏.‏ احتج من فضل الملائكة بأنهم ‏{‏عباد مكرمون‏.‏ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون‏} ‏‏.‏ ‏{‏ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏} ‏ ‏.‏ وقوله‏{‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون‏}‏ ُ ‏.‏ وقوله‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك‏}‏ ‏.‏ وفي البخاري‏:‏ ‏(‏يقول الله عز وجل من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم‏)‏‏.‏ وهذا نص‏.‏ احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة‏}‏ ُ ‏.‏ بالهمز، من برأ الله الخلق‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم‏)‏ الحديث‏.‏‏"‏ أخرجه أبو داود‏"‏، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، والله أعلم‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ههنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا‏:‏ الملائكة أفضل‏.‏ قال‏:‏ وأما من قال من أصحابنا والشيعة‏:‏ إن الأنبياء أفضل لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم‏:‏ المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة‏.‏ ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى، لأن السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد، وهذا واضح‏.‏ وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا‏.‏

قوله تعالى‏{‏إني أعلم غيب السماوات والأرض‏}‏ دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة‏.‏ وسيأتي بيان هذا في الأنعام إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏ 0

قوله تعالى‏{‏وأعلم ما تبدون ‏}‏أي من قولهم‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ حكاه مكي والماوردي‏.‏ وقال الزهراوي‏:‏ ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم‏.‏ ‏{‏وما كنتم تكتمون‏}‏ قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير‏:‏ المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وجاء ‏{‏تكتمون‏}‏ للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم‏:‏ أنتم فعلتم كذا‏.‏ أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى‏{‏إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون‏} ‏.‏ وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع‏.‏ وقال مهدي بن ميمون‏:‏ كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة‏؟‏ قال‏:‏ إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شيء، قال‏:‏ ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا‏:‏ وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏{‏ما تبدون‏}‏ يجوز أن ينتصب بـ ‏{‏أعلم‏}‏ على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به ‏{‏ما‏}‏ فيكون مثل حواج بيت الله، وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏34‏)‏

‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلنا‏}‏ أي واذكر‏.‏ وأما قول أبي عبيدة‏:‏ إن ‏{‏إذ‏}‏ زائدة فليس بجائز، لأن إذ ظرف‏.‏ وقال‏{‏قلنا‏}‏ ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره‏.‏ والملائكة جمع ملك، وروي عن ابن جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعا لضم الجيم في ‏{‏اسجدوا‏}‏‏.‏ ونظيره ‏{‏الحمد لله‏}‏‏.‏ 0

قوله تعالى‏{‏اسجدوا‏}‏ السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر‏:‏

يجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

الأكم‏:‏ الجبال الصغار‏.‏ جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها‏.‏ وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل‏.‏ والإسجاد‏:‏ إدامة النظر‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال‏:‏

فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها

قال أبو عبيدة‏:‏ وأنشدني أعرابي من بني أسد‏:‏

وقلن له أسجد لليلى فأسجدا

يعني البعير إذا طأطأ رأسه‏.‏ ودراهم الإسجاد‏:‏ دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال‏:‏

وافى بها كدراهم الإسجاد

استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم‏.‏ والجواب أن معنى ‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم‏.‏ وهو كقوله تعالى‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ أي عند دلوك الشمس وكقوله‏{‏ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏} ‏ُ أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين‏.‏ وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له‏؟‏ قيل له‏:‏ إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما‏.‏ ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ لما قال لهم‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ُ وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم‏{‏إني خالق بشرا من طين‏} ‏ وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏.‏ والمعنى‏:‏ ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن‏.‏ فإن قيل‏:‏ فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال‏{‏لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏ }‏.‏ وأمنه من العذاب بقوله‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏} ‏ ‏.‏ وقال للملائكة‏{‏و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم‏} ‏ُ ‏.‏ قيل له‏:‏ إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل‏:‏ لعمري‏.‏ وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع‏.‏ وأقسم بالتين والزيتون‏.‏ وأما قول سبحانه‏{‏ومن يقل منهم إني إله من دونه‏}‏ ‏.‏ فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏} ‏ فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم‏.‏

واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور‏:‏ كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل‏:‏ كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا‏.‏ ومعنى ‏{‏لآدم‏}‏‏:‏ إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة‏.‏ وقال قوم‏:‏ لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل‏.‏ ‏{‏فسجدوا‏}‏ أي امتثلوا ما أمروا به‏.‏

واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى‏{‏ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا‏} ‏ُ فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين‏؟‏ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل‏:‏ نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم‏:‏ ‏(‏لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين‏)‏‏.‏ ‏"‏روى ابن ماجة في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد‏"‏ قال‏:‏ لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما هذا‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال‏:‏ ‏(‏فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه‏)‏‏.‏ لفظ البستي‏.‏ ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة‏.‏ وفي بعض طرق معاذ‏:‏ ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم‏.‏

قوله‏{‏إلا إبليس‏}‏ نصب على الاستثناء المتصل، لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور‏:‏ ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد‏.‏ روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا‏.‏ وحكى الماوردي عن قتادة‏:‏ أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور‏.‏ وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا‏:‏ إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا، و روى نحوه عن ابن عباس وقال‏:‏ اسمه الحارث‏.‏ وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين‏:‏ كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود‏.‏ والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى‏{‏ما لهم به من علم إلا اتباع الظن‏}‏ ُ وقوله‏{‏إلا ما ذكيتم‏} ‏.‏ في أحد القولين، وقال الشاعر‏:‏

ليس عليك عطش ولا جوع إلا الرقاد والرقاد ممنوع

واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال‏{‏لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ ، وقوله تعالى‏{‏إلا إبليس كان من الجن‏} ‏ ‏.‏ والجن غير الملائكة‏.‏ أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة‏.‏ وقول من قال‏:‏ إنه كان من جن الأرض فسبي، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره‏.‏ وحكى الثعلبي عن ابن عباس‏:‏ أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما‏.‏ فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا‏.‏ والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا‏}‏ ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام‏:‏

وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر

وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم‏.‏ وإبليس وزنه إفعيل، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى‏.‏ ولم ينصرف، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قال أبو عبيدة وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏أبى‏}‏ معناه امتنع من فعل ما أمر به، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي راوية‏:‏ يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار‏)‏‏.‏ خرجه مسلم‏.‏ يقال‏:‏ أبي يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل‏:‏ إن الألف مضارعة لحروف الحلق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول‏:‏ القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا أعلم أن أبا إسحاق روى إسماعيل نحوا غير هذا الحرف‏.‏

قوله تعالى‏{‏واستكبر ‏}‏الاستكبار‏:‏ الاستعظام، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته‏.‏ وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر‏)‏‏.‏ في رواية فقال رجل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه مسلم‏"‏‏.‏ ومعنى بطر الحق‏:‏ تسفيهه وإبطاله‏.‏ وغمط الناس‏:‏ الاحتقار لهم والازدراء بهم‏.‏ ويروى‏{‏وغمص‏}‏ بالصاد المهملة، والمعنى واحد، يقال‏:‏ غمصه يغمصه غمصا واغتمصه، أي استصغره ولم يره شيئا‏.‏ وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها‏.‏ وغمصت عليه قولا قاله، أي عبته عليه‏.‏ وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال‏{‏أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏ .‏ ‏{‏أأسجد لمن خلقت طينا‏}‏ ‏.‏ ‏{‏لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون‏} ‏ُ فكفره الله بذلك‏.‏ فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه‏.‏ و روى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال‏:‏ أنا ناري وهذا طيني‏.‏ وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكان من الكافرين ‏}‏قيل‏:‏ كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى‏{‏فكان من المغرقين‏}‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

أي صارت‏.‏ وقال ابن فورك‏.‏ ‏{‏كان‏}‏ هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول‏.‏ وقال جمهور المتأولين‏:‏ المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري‏:‏ ‏(‏وإنما الأعمال بالخواتيم‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن إبليس عبدالله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطي المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال‏:‏ أنا خير منه، ولذلك قال الله عز وجل‏{‏ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين‏}‏ أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي فلذلك قال‏{‏وكان من الكافرين‏} ‏ُ ‏.‏ وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال‏{‏فبعزتك لأغوينهم أجمعين‏} ‏ُ ‏.‏ فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام‏.‏ وعن أبي صالح قال‏:‏ خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة‏.‏

قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - ‏:‏ ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا‏:‏ إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر‏.‏ ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان‏.‏ ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله‏.‏ قالوا‏:‏ ولا نمنع أن يطلع بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره‏.‏ وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم‏.‏

واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، وإن إبليس أول من كفر‏.‏ وقيل‏:‏ كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض‏.‏ واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره‏.‏ فمن قال إنه كفر جهلا قال‏:‏ إنه سلب العلم عند كفره‏.‏ ومن قال كفر عنادا قال‏:‏ كفر ومعه علمه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء‏.‏